05.18وردة الجزائرية
لم يكن يفصل وردة الجزائرية عن إحياء الذكرى الخمسين لاستقلال الجزائر إلا بضعة أسابيع تغلق عبرها النصف قرن من التواجد مع الجزائريين في عيد أعيادهم كما تغنت دائما في رائعة عيد الكرامة، فقد غنت وردة للثورة رائعة نداء الضمير التي منحت بها لنفسها جواز سفر في كل الأقطار العربية، ومنحت للجزائر بُعدا إشهاريا لثورتها، وفي العقد الأول للاستقلال في عام 1972 كانت وردة نجمة النجوم وخصتها حينها مجلة روز اليوسف بموضوع طويل ومثير اعتبرتها القنبلة الفنية الموقوتة التي بإمكانها أن تهدد عرش الفنانة أم كلثوم خاصة أنها وجدت الدعم من الراحل هواري بومدين.
ولكن الإشاعة لحقت وردة الجزائرية أواخر السبعينات خاصة بعد زيارة الرئيس المصري السابق أنور السادات إلى القدس وبعد معاهدة كامب ديفيد التي اعتبرها بومدين خيانة وخوّن من سار في نهجها أو حتى التزم الصمت، حيث وصل وفد إسرائيلي يهودي إلى القاهرة، وقيل أن وردة التقت باليهودي الفرنسي أونريكو ماسياس، وقيل أيضا أن أفيشات الغناء صارت تكتب وردة فقط من دون جزائرية في القاهرة وفي الإسكندرية، وكانت لا تمانع، وأشار بومدين لوضع إسمها ضمن قائمة الفنانين المغضوب عليهم في القائمة السوداء الذين لا يُمنعون من الغناء في الجزائر ولا تبث أغانيهم فقط، بل يُعاقب من يروّج لهم ويستمع لأغانيهم، وكانت منهم صباح ومحمد عبد الوهاب ملحن نشيد السلام مع اسرائيل رغم أنه هو من استعان بوردة في أوبرات وطني الأكبر، ولم يفك قيودها سوى الشاذلي بن جديد عام 1982 في الاحتفالية الكبرى عندما استدعاها وجعلها النجمة الاولى وفتح الباب لتعاملها مع حلمي بكر، وحضر الشاذلي رفقة زوجته إحدى حفلاتها الخاصة بإحياء مؤتمر الصومام.
ويعتبر الشاذلي بن جديد هو من أرجع وردة وبقوة إلى الجزائر، وكان مبرمجا لوردة أن تؤدي أغنية في الذكرى الثلاثين للاستقلال حيث وصلت الجزائر في الثاني من شهر جولية 1992 ولكن اغتيال محمد بوضياف بخّر حلمها، وقالت حينها أنها لن تغني تلك الأغنية مدى الحياة، وفي الذكرى الأربعين للاستقلال كانت وردة الجزائرية ضيفة شرف على مهرجان تيمڤاد الدولي حيث حضرت إلى الجزائر رفقة الممثلة إلهام شاهين وحضرت حفل الاختتام كضيفة شرف وتمتعت مع الجمهور بثنائية غنائية مع السورية أصالة نصري والتونسي صابر الرباعي، إذ كان تبادل الإعجاب بين وردة الجالسة مع الجمهور والفنانين على الركح في حد ذاته حفلة أخرى، وصادف حفل اختتام مهرجان تيمقاد لعام 2002 احتفال وردة بعيد ميلادها الثالث والستين، حيث تهاطلت عليها الهدايا من كل مكان وحتى من الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وقدمت لها وسط عاصفة من التصفيق والترحاب من الجماهير، كما أن الراحل بن بلة شارك الرئيس بوتفليقة في تقديمها وسام الاستحقاق من صنف الأثير في خمسينية الثورة سنة 2004 فكان القدر أن يرحلا سويا قبل الاحتفال بخمسينية الاستقلال التي سيغيب عنها أحمد بن بلة وعبد الحميد مهري ووردة الجزائرية وجميعهم كافحوا بطريقتهم الخاصة قبل وبعد الإستقلال.
علاقة وردة بنجوم الطرب العربي
تزوجت بليغ حمدي ونافست أم كلثوم ودوخت عبد الحليم حافظ
عندما توجهت وردة الجزائرية للعيش في مصر عام 1972 من أجل الفن، كان لزاما عليها أن تحتاط قبل الدخول إلى مملكة اشتد فيها الصراع بين أربعة كبار وهم أم كلثوم التي نجحت بألحان بليغ حمدي مثل ألف ليلة وليلة وبعيد عنك وأنساك وفات الميعاد، وعبد الحليم حافظ الذي اشتهر أيضا بألحان بليغ حمدي مثل زي الهوى وموعود وأي دمعة حزن، ومحمد عبد الوهاب الذي توقف حينها عن الغناء واهتم بالتلحين لعبد الحليم ولنجاة الصغير، وأيضا فريد الأطرش الذي كان يكافح بأصوله الشامية لأجل أن يبقى ملكا للأغنية العاطفية، ولم يكن الترحيب بوردة واردا على الإطلاق، وحاول الجميع أن يضعها في الصف الثاني رفقة فايزة أحمد وشادية خاصة أن اللبنانيتين صباح وفيروز عجزتا عن دخول هذه المملكة الكبرى.
ولكن زواج وردة المفاجئ من بليغ حمدي غيّر المعطيات لصالح وضد وردة في نفس الوقت فمنحها الأمان الاجتماعي والفني وفتح أبوابها أمام الريح القادمة من القمة، وبدأ الحديث عن تحويل بعض الروائع التي كانت مخصصة لأم كلثوم ولعبد الحليم حافظ لصالح وردة من طرف زوجها بليغ حمدي، وحدثت مواجهة صريحة ومباشرة وعنيفة مع عبد الحليم حافظ خاصة أن عبد الحليم بعد أن نجح في بداية السبعينات في إعادة التراث المصري بروائع جانا الهوى وكامل الأوصاف والهوى هوايا من ألحان بليغ حمدي صار متربعا على عرش الأغنية العربية، وتفوق شعبيا على فريد الأطرش، وبدأت وردة في إطلاق أغاني أشبه بالصرعات التي دوخت العندليب الأسمر، ومنها العيون السود فقرّر العودة لعبد الوهاب وأطلق فاتت جنبنا ونبتدي منين الحكاية، ولكن وردة هاجمت عبد الحليم حافظ في أغنية اولاد الحلال مباشرة، وكانت بعض مقاطع الأغنية تشير إليه مباشرة عندما تقول .. “كل يوم طالعين في بيتنا يطلعوا يجيبو في سيرتنا كل يوم ناس ما بتحبش راحتنا” وهو ما جعل عبد الحليم حافظ متهما بتعكير صفو العلاقة بين الزوجين التي انتهت بالطلاق وكانت نهاية وردة الفنية حيث تبنى بليغ حمدي بعد ذلك السورية ميادة الحناوي وبعدها المغربية سميرة سعيد ولم يعد إلى وردة إلا في أغنيتين “من بين ألوف” وأغنية “أودعك” التي وعدها بها وودع العالم بأسره.
وحتى عبد الحليم اتهم وردة في آخر روائعه قارئة الفنجان بإرسال بلطجية أفسدوا الحفلة فكانوا يصفرون ويسخرون من أغنية تتحدث عن قارئة الفنجان، ولئن كانت وردة قد استفادت من أغنية السيد مكاوي بعد وفاة أم كلثوم “أوقاتي بتحلو” إلا أن علاقتها مع سيدة الطرب كانت معدومة نهائيا خاصة أن أم كلثوم كانت تظن ومقتنعة بأن لا أحد يطاول قامتها، وهو ما جعل وردة الجزائرية تتزوج من الملحن الشاب الذي أبدع لأم كلثوم في “حب إيه” و”سيرة الحب”، فقدمت معه أروع ما جادت به قريحته الفنية مثل “العيون السود” و”خليك هنا”
واعترفت الراحلة وردة بأن فريد الأطرش كان الوحيد الذي ساعدها بنصائحه ووقف إلى جانبها، ولكن المشكلة أنها تعرفت عليه وهو في خريف عمره بعد أن أتعبه مرض القلب فلم يتمكن سوى من منحها لحنين هما “روحي وروحك” في بداية الستينات وأغنية “كلمة عتاب” التي أكمل تلحينها زوجها بليغ بعد وفاة ملك العود سنة 1974، ولكن حظها مع موسيقار الأجيال كان وافرا جدا، حيث قدم لها محمد عبد الوهاب أروع أغانيها على الإطلاق مثل “لولا الملامة” و”في يوم وليلة” و”بعمري كله حبيتك” وغيرها..
عادت إلى الغناء عام 1972 بعد اعتزالها الطويل
روراوة وعميمور أقنعا بليغ حمدي لتلحين “أدعوك يا أملي”
بومدين كان حلمه أن يجعل من وردة “أم كلثوم” الجزائر
كان لزاما علينا وخبر وفاة وردة الجزائرية يهز الأوساط الفنية الاتصال بالدكتور محيي الدين عميمور الذي كان عام 1972 رئيسا للجنة الوطنية المشرفة على الجانب الثقافي والفني الخاص بالاحتفالات المخلدة للذكرى العاشرة للاستقلال، وهي الذكرى التي شهدت عودة وردة الجزائرية للغناء بعد انقطاعها الطويل بعد زواجها من المسؤول الجزائري المرحوم قصري أب إبنها وابنتها، وإذا كان الراحل هواري بومدين هو صاحب الفكرة حتى يؤكد للعالم العربي بأن جزائر الاستقلال صارت تنتج صناعة وفلاحة وثقافة، فإن التنفيذ شارك فيه الثلاثي بابا علي بن يوسف والسيد محيي الدين عميمور وأيضا رئيس الفاف الحالي الحاج محمد روراوة، حيث تم استقبال الموسيقار الكبير بليغ حمدي في بيت محيي الدين عميمور ومكّنوه من سفرية إلى عاصمة الغرب الجزائري حيث استمع لمختلف الطبوع الجزائرية، وباشر عمله في تلحين قصيدة الشاعر الجزائري الراحل صاحب ديوان أطلس المعجزات صالح خرفي “أدعوك يا أملي” وهو نفس الشاعر الذي هزت قصيدته نداء الضمير العالم العربي بصوت وردة قبل الاستقلال، يقول الدكتور محيي الدين عميمور للشروق اليومي ..”
الراحل هواري بومدين هو صاحب منح شرف حفلة العقد الأول للاستقلال للسيدة وردة الجزائرية، وأظنه كلّف شريف بلقاسم ليُقنع زوج وردة بأن تكون سيدة الحفلة غنائيا ولتعد بعد ذلك غلى بيتها ووافق زوجها، خاصة ان الجميع اقتنع بأن دعوة أم كلثوم غير محبذة لأن كوكب الشرق لم تغن للجزائر في ثورتها”، ومن الإجحاف منحها تاج الاحتفالية تزامنا مع أهم ذكرى في تاريخ الجزائر المستقلة، ويرى الدكتور محيي الدين عميمور أن وردة قصّرت في حق الجزائر مقارنة بالسيدة أم كلثوم مثلا التي أدت العشرات من الروائع لبلدها مصر، ولكنه يرى لها أعذارا في ظروفها الاجتماعية الصعبة التي يجب تفهمها.
وكان هاجس الراحل هواري بومدين هو البحث عن فكرة للوحدة الوطنية من خلال اللغة العربية الفصحى، فحاول أن يجعل من الذكرى العاشرة رسالة قوية من صوت عربي وشعر بالفصحى من شاعر جزائري، وبقي الاستعانة باللحن لأصحاب الخبرة ولكنه جاء بنكهة جزائرية بدليل أن الراحل بليغ حمدي اعترف لمحي الدين عميمور أنه اشتق مقطعا من أغنية جزائرية بعنوان “مانيش منا”، وهو اعتراف يدل على نزاهة الفنان بليغ حمدي الذي يعتبر الملحن العربي الوحيد رفقة رياض السنباطي وزكريا أحمد الذين لم يتورطوا في سرقات الألحان من السنفونيات العالمية ومن التراث الشعبي لبعض البلدان، وبينما كانت الرتوشات الأخيرة على رائعة وردة تقترب من النهاية مع تواجد عدد من كبار الملحنين ومنهم شريف قرطبي، كان محيي الدين عميمور يُقنع المطربة الإفريقية الراحلة مريم ماكيبا على الغناء بالعربية من ألحان لمين بشيش فتزامنت أغنيتها الشهيرة أنا حرة في الجزائر مع عودة وردة للغناء.
وحان الثالث من جويلية عام 1972 ولأول مرة في حياته حضر الراحل هواري بومدين إلى قاعة الأطلس وتابع رائعة وردة إلى آخر نوتة منها، الراحل الذي حضر رفقة عبد الناصر لقاء القمة بين أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب عام 1964 في أغنية أنت عمري كان يريد لوردة أن تكون أم كلثوم المغرب العربي، ولكن وردة لم تجد الجو الفني المناسب فسافرت إلى مصر وتطلقت من زوجها وتزوجت بعد ذلك من بليغ حمدي، ولم يلتق محي الدين عميمور بوردة على مدى أربعين سنة.